سورة الزمر - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
اعلم أن هذا حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة، وذلك لأنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى، ويرون أن دفع ذلك لا يكون إلا منه، ثم إنه تعالى إذا خولهم النعمة، وهي إما السعة في المال أو العافية في النفس، زعم أنه إنما حصل ذلك بكسبه وبسبب جهده وجده، فإن كان مالاً قال إنما حصل بكسبي، وإن كان صحة قال إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني، وهذا تناقض عظيم، لأنه كان في حال العجز والحاجة أضاف الكل إلى الله وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله، وأسنده إلى كسب نفسه، وهذا تناقض قبيح، فبين تعالى قبح طريقتهم فيما هم عليه عند الشدة والرخاء بلفظة وجيزة فصيحة، فقال: {بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} يعني النعمة التي خولها هذا الكافر فتنة، لأن عند حصولها يجب الشكر، وعند فواتها يجب الصبر، ومن هذا حاله يوصف بأنه فتنة من حيث يختبر عنده حال من أوتي النعمة، كما يقال فتنت الذهب بالنار، إذا عرضته على النار لتعرف خلاصته.
ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} والمعنى ما قدمنا أن هذا التخويل إنما كان لأجل الاختبار. وبقي في الآية أبحاث نذكرها في معرض السؤال والجواب.
السؤال الأول: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء هاهنا، وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟ والجواب: أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنهم يشمئزون من سماع التوحيد ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء، ثم ذكر بفاء التعقيب أنهم إذا وقعوا في الضر والبلاء والتجأوا إلى الله تعالى وحده، كان الفعل الأول مناقضاً للفعل الثاني، فذكر فاء التعقيب ليدل على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال، وأنه ليس بين الأول والثاني فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني، فهذا هو الفائدة في ذكر فاء التعقيب هاهنا.
فأما الآية الأولى فليس المقصود منها بيان وقوعهم في التناقض في الحال، فلا جرم ذكر الله بحرف الواو لا بحرف الفاء.
السؤال الثاني: ما معنى التخويل؟
الجواب: التخويل هو التفضل، يعني نحن نتفضل عليه وهو يظن أنه إنما وجده بالاستحقاق.
السؤال الثالث: ما المراد من قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ}؟
الجواب: يحتمل أن يكون المراد، إنما أوتيته على علم الله بكوني مستحقاً لذلك، ويحتمل أن يكون المراد، إنما أوتيته على علمي بكوني مستحقاً له، ويحتمل أن يكون المراد، إنما أوتيته على علم لأجل ذلك العلم قدرت على اكتسابه مثل أن يكون مريضاً فيعالج نفسه، فيقول إنما وجدت الصحة لعلمي بكيفية العلاج، وإنما وجدت المال لعلمي بكيفية الكسب.
السؤال الرابع: النعمة مؤنثة، والضمير في قوله: {أُوتِيتُهُ} عائد على النعمة، فضمير التذكير كيف عاد إلى المؤنث، بل قال بعده: {بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} فجعل الضمير مؤنثاً فما السبب فيه؟ والجواب: أن التقدير حتى إذا خولناه شيئاً من النعمة، فلفظ النعمة مؤنث ومعناه مذكر، فلا جرم جاز الأمران.
ثم قال تعالى: {قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أغْنَى عَنْهُمْ} الضمير في {قالها} راجح إلى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} عندي لأنها كلمة أو جملة من المقول {والذين مِن قَبْلِهِمْ} هم قارون وقومه حيث قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} [القصص: 78] وقومه راضون به فكأنهم قالوها، ويجوز أيضاً أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها.
ثم قال تعالى: {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي ما أغنى عنهم ذلك الاعتقاد الباطل والقول الفاسد الذي اكتسبوه من عذاب الله شيئاً بل أصابهم سيئات ما كسبوا، ولما بين في أولئك المتقدمين فإنهم أصابهم سيئات ما كسبوا أي عذاب عقائدهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة قال: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي لا يعجزونني في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} يعني: أو لم يعلموا أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة، ويقبض تارة أخرى، وقوله: {وَيَقْدِرُ} أي ويقتر ويضيق، والدليل عليه أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه ولا بد من سبب، وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله، لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، ونرى الجاهل المريض الضعيف في أعظم السعة، وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكبير والسلطان القاهر، قد ولد فيه أيضاً عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان، ويولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات، فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة، علمنا أنه ليس المؤثر في السعادة والشقاوة هو الطالع، ولما بطلت هذه الأقسام، علمنا أن المؤثر فيه هو الله سبحانه، وصح بهذا البرهان العقلي القاطع على صحة قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ}.
قال الشاعر:
فلا السعد يقضي به المشترى *** ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السما *** ء وقاضي القضاة تعالى وجل


{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)}
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق العبيد وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر، فقالوا: إنا بينا في هذا الكتاب أن عرف القرآن جار بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] وقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] ولأن لفظ العباد مذكور في معرض التعظيم، فوجب أن لا يقع إلا على المؤمنين، إذا ثبت هذا ظهر أن قوله: {يا عِبَادِى} مختص بالمؤمنين، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله، أما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات والعزى وعبد المسيح، فثبت أن قوله: {يا عِبَادِى} لا يليق إلا بالمؤمنين، إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال: {الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} وهذا عام في حق جميع المسرفين.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين، وذلك هو المقصود فإن قيل هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها، وإلا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً، وأنتم لا تقولون به، فما هو مدلول هذه الآية لا تقولون به، والذي تقولون به لا تدل عليه هذه الآية، فسقط الاستدلال، وأيضاً إنه تعالى قال عقيب هذه الآية {وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} إلى قوله: {بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} ولو كان المراد من أول الآية أنه تعالى غفر جميع الذنوب قطعاً لما أمر عقيبه بالتوبة، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون، وأيضاً قال: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} ولو كانت الذنوب كلها مغفورة، فأي حاجة به إلى أن يقول: {ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله}؟ وأيضاً فلو كان المراد ما يدل عليه ظاهر لفظ الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها، وذلك لا يليق بحكمة الله، وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن يقال المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب ألبتة، فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله، إذ لا أحد من العصاة المذنبين إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة، فمعنى قوله: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} أي بالتوبة والإنابة والجواب قوله الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به، قلنا بل نحن نقول به ونذهب إليه، وذلك لأن صيغة يغفر صيغة المضارع، وهي للاستقبال، وعندنا أن الله تعالى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلى هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعاً، إما قبل الدخول في نار جهنم، وإما بعد الدخول فيها، فثبت أن ما يدل عليه ظاهر الآية فهو عين مذهبنا.
أما قوله لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة، فالجواب أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم، فإنا لا نقطع بإزالة العقاب بالكلية، بل نقول لعله يعفو مطلقاً، ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك، وبهذا الحرف يخرج الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم.


المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية تدل على الرحمة من وجوه:
الأول: أنه سمى المذنب بالعبد والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة، واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج.
الثاني: أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال: {ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ} وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب الثالث: أنه تعالى قال: {أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما عاد إليه بل هو عائد إليهم، فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم، ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم الرابع: أنه قال: {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} نهاهم عن القنوط فيكون هذا أمراً بالرجاء والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم الخامس: أنه تعالى قال أولاً: {يا عِبَادِى} وكان الأليق أن يقول لا تقنطوا من رحمتي لكنه ترك هذا اللفظ وقال: {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} لأن قولنا الله أعظم أسماء الله وأجلها، فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة والفضل السادس: أنه لما قال: {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} كان الواجب أن يقول إنه يغفر الذنوب جميعاً ولكنه لم يقل ذلك، بل أعاد اسم الله وقرن به لفظة إن المفيدة لأعظم وجوه التأكيد، وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمن السابع: أنه لو قال: {يَغْفِرُ الذنوب} لكان المقصود حاصلاً لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال جميعاً وهذا أيضاً من المؤكدات الثامن: أنه وصف نفسه بكونه غفوراً، ولفظ الغفور يفيد المبالغة التاسع: أنه وصف نفسه بكونه رحيماً والرحمة تفيد فائدة على المغفرة فكان قوله: {إِنَّهُ هُوَ الغفور} إشارة إلى إزالة موجبات العقاب، وقوله: {الرحيم} إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب العاشر: أن قوله: {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} يفيد الحصر، ومعناه أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو، وذلك يفيد الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة، فهذه الوجوه العشرة مجموعة في هذه الآية، وهي بأسرها دالة على كمال الرحمة والغفران، ونسأل الله تعالى الفوز بها والنجاة من العقاب بفضله ورحمته.
المسألة الثالثة: ذكروا في سبب النزول وجوهاً، قيل إنها نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم؟ وقيل نزلت في وحشي قاتل حمزة لما أراد أن يسلم وخاف أن لا تقبل توبته، فلما نزلت الآية أسلم، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال بل للمسلمين عامة وقيل نزلت في أناس أصابوا ذنوباً عظاماً في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا لا يقبل الله توبتهم، وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم فتنوا فافتتنوا وكان المسلمون يقولون فيهم لا يقبل الله منهم توبتهم فنزلت هذه الآيات فكتبها عمر، وبعث بها إليهم فأسلموا وهاجروا، واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزول هذه الآيات في هذه الوقائع لا يمنع من عمومها.
المسألة الرابعة: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم {يا عِبَادِى} بفتح الياء والباقون وعاصم في بعض الروايات بغير فتح وكلهم يقفون عليه بإثبات الياء لأنها ثابتة في المصحف، إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء، وقرأ أبو عمرو والكسائي تقنطوا بكسر النون والباقون بفتحها وهما لغتان، قال صاحب الكشاف، وفي قراءة ابن عباس، وابن مسعود {يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً لِمَن يَشَاء}.
ثم قال تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم} قال صاحب الكشاف أي وتوبوا إليه وأسلموا له أي وأخصلوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه، وأقول هذا الكلام ضعيف جداً لأن عندنا التوبة عن المعاصي واجبة فلم يلزم من ورود الأمر بها طعن في الوعد بالمغفرة، فإن قالوا لو كان الوعد بالمغفرة حاصلاً قطعاً لما احتيج إلى التوبة، لأن التوبة إنما تراد لإسقاط العقاب، فإذا سقط العقاب بعفو الله عنه فلا حاجة إلى التوبة، فنقول هذا ضعيف لأن مذهبنا أنه تعالى وإن كان يغفر الذنوب قطعاً ويعفو عنها قطعاً إلا أن هذا العفو والغفران يقع على وجهين تارة يقع ابتداء وتارة يعذب مدة في النار ثم يخرجه من النار ويعفو عنه، ففائدة التوبة إزالة هذا العقاب، فثبت أن الذي قاله صاحب الكشاف ضعيف ولا فائدة فيه.
ثم قال: {واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} واعلم أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بأشياء فالأول: أمر بالإنابة وهو قوله تعالى: {وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ} والثاني: أمر بمتابعة الأحسن، وفي المراد بهذا الأحسن وجوه:
الأول: أنه القرآن ومعناه واتبعوا القرآن والدليل عليه قوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا} [الزمر: 23] الثاني: قال الحسن معناه، والتزموا طاعة الله واجتنبوا معصية الله، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه، ذكر القبيح ليجتنب عنه، والأدون لئلا يرغب فيه، والأحسن ليتقوى به ويتبع الثالث: المراد بالأحسن الناسخ دون المنسوخ لأن الناسخ أحسن من المنسوخ، لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ولأن الله تعالى لما نسخ حكماً وأثبت حكماً آخر كان اعتمادنا على المنسوخ.
ثم قال: {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} والمراد منه التهديد والتخويف والمعنى أنه يفجأ العذاب وأنتم غافلون عنه، واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بيّن تعالى أن بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلمات فالأول: قوله تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {أَن تَقُولَ} مفعول له أي كراهة أن تقول: {ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} وأما تنكير لفظ النفس ففيه وجهان الأول: يجوز أن تراد نفس ممتازة عن سائر النفوس لأجل اختصاصها بمزيد إضرار بما لا ينفي رغبتها في المعاصي والثاني: يجوز أن يراد به الكثرة، وذلك لأنه ثبت في علم أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يفيد الظن بأن ذلك الحكم معلل بذلك الوصف، فقوله: {يا حسرتا} يدل على غاية الأسف ونهاية الحزن وأنه مذكور عقيب قوله تعالى: {على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} والتفريط في طاعة الله تعالى يناسب شدة الحسرة وهذا يقتضي حصول تلك الحسرة عند حصول هذا التفريط، وذلك يفيد العموم بهذا الطريق.
المسألة الثانية: القائلون بإثبات الأعضاء لله تعالى استدلوا على إثبات الجنب بهذه الآية، واعلم أن دلائلنا على نفي الأعضاء قد كثرت، فلا فائدة في الإعادة، ونقول بتقدير أن يكون المراد من هذا الجنب عضواً مخصوصاً لله تعالى، فإنه يمتنع وقوع التفريط فيه، فثبت أنه لابد من المصير إلى التأويل وللمفسرين فيه عبارات، قال ابن عباس يريد ضيعت من ثواب الله، وقال مقاتل ضيعت من ذكر الله، وقال مجاهد في أمر الله، وقال الحسن في طاعة الله، وقال سعيد بن جبير في حق الله، واعلم أن الإكثار من هذه العبارات لا يفيد شرح الصدور وشفاء الغليل، فنقول: الجنب سمي جنباً لأنه جانب من جوانب ذلك الشيء والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت هذه المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة قال الشاعر:
أما تتقين الله جنب وامق *** له كبد حرا عليك تقطع
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف قرئ {يا حسرتي} على الأصل و{يا حسرتاي} على الجمع بين العوض والمعوض عنه.
أما قوله تعالى: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} أي أنه ما كان مكتفياً بذلك التقصير بل كان من المستهزئين بالدين، قال قتادة لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل {وَإِن كُنتُ} نصب على الحالة كأنه قال: فرطت في جنب الله وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي.
النوع الثاني: من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن أهل العذاب أنهم يذكرونه بعد نزول العذاب عليهم قوله: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ المتقين}.
النوع الثالث: قوله: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} وحاصل الكلام أن هذا المقصر أتى بثلاثة أشياء أولها: الحسرة على التفريط في الطاعة.
وثانيها: التعلل بفقد الهداية.
وثالثها: بتمني الرجعة، ثم أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال بفقد الهداية باطل، لأن الهداية كانت حاصرة والأعذار زائلة، وهو المراد بقوله: {بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين} وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج بلى جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي، لأن معنى قوله: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى} أنه ما هداني، فلا جرم حسن ذكر لفظة {بلى} بعده.
المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله: القراءة المشهورة واقعة على التذكير في قوله: {بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين} لأن النفس تقع على الذكر والأنثى فخوطب بالذكر، وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على التأنيث، قال أبو عبيد لو صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان حجة لا يجوز لأحد تركها ولكنه ليس بمسند، لأن الربيع لم يدرك أم سلمة، وأما وجه التأنيث فهو أنه ذكر النفس ولفظ النفس ورد في القرآن في أكثر الأمر على التأنيث بقوله: {سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} [طه: 96] و{إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} [يوسف: 53] و{يا أيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27].
المسألة الثالثة: قال القاضي هذه الآيات دالة على صحة القول بالقدر من وجوه:
الأول: أنه لا يقال: فلان أسرف على نفسه على وجه الذم إلا لما يكون من قبله، وذلك يدل على أن أفعال العباد تحصل من قبلهم لا من قبل الله تعالى.
وثانيها: أن طلب الغفران والرجاء في ذلك أو اليأس لا يحسن إلا إذا كان الفعل فعل العبد.
وثالثها: إضافة الإنابة والإسلام إليه من قبل أن يأتيه العذاب وذلك لا يكون إلا مع تمكنه من محاولتهما مع نزول العذاب، ومذهبهم أن الكافر لم يتمكن قط من ذلك.
ورابعها: قوله تعالى: {واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} وذلك لا يتم إلا بما هو المختار للاتباع.
وخامسها: ذمه لهم على أنهم لا يشعرون بما يوجب العذاب وذلك لا يصح إلا مع التمكن من الفعل.
وسادسها: قولهم: {ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} ولا يتحسر المرء على أمر سبق منه إلا وكان يصح منه أن يفعله.
وسابعها: قوله تعالى: {على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} ومن لا يقدر على الإيمان كما يقول القوم ولا يكون الإيمان من فعله لا يكون مفرطاً.
وثامنها: ذمه لهم بأنهم من الساخرين، وذلك لا يتم إلا أن تكون السخرية فعلهم وكان يصح منهم أن لا يفعلوه.
وتاسعها: قوله: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى} أي مكنني {لَكُنتُ مِنَ المتقين} وعلى هذا قولهم إذا لم يقدر على التقوى فكيف يصح ذلك منه.
وعاشرها: قوله: {لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} وعلى قولهم لو رده الله أبداً كرة بعد كرة، وليس فيه إلا قدرة الكفر لم يصح أن يكون محسناً، والحادي عشر: قوله تعالى موبخاً لهم {بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتى فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين} فبيّن تعالى أن الحجة عليهم لله لأن الحجة لهم على الله، ولو أن الأمر كما قالوا لكان لهم أن يقولوا: قد جاءتنا الآيات ولكنك خلقت فينا التكذيب بها ولم تقدرنا على التصديق بها.
والثاني عشر: أنه تعالى وصفهم بالتكذيب والاستكبار والكفر على وجه الذم ولو لم تكن هذه الأشياء أفعالاً لهم لما صح الكلام، والجواب عنه أن هذه الوجوه معارضة، بما أن القرآن مملوء من أن الله تعالى يضل ويمنع ويصدر منه اللين والقسوة والاستدراج، ولما كان هذا التفسير مملوءاً منه لم يكن إلى الإعادة حاجة.


{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}
اعلم أن هذا نوع آخر من تقرير الوعيد والوعد، أما الوعيد فقوله تعالى: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} وفيه بحثان: أحدهما: أن هذا التكذيب كيف هو؟ والثاني: أن هذا السواد كيف هو؟.
البحث الأول: عن حقيقة هذا التكذيب، فنقول: المشهور أن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، ومنهم من قال هذا القدر لا يكون كذباً بل الشرط في كونه كذباً أن يقصد الإتيان بخبر يخالف المخبر عنه، إذا عرفت هذا الأصل فنذكر أقوال الناس في هذه الآية:
قال الكعبي: ويرد الجبر بأن هذه الآية وردت عقيب قوله: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى} [الزمر: 58] يعني أنه ما هداني بل أضلني، فلما حكى الله عن الكفار ثم ذكر عقيبه {تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} وجب أن يكون هذا عائداً إلى ذلك الكلام المتقدم، ثم روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما بال أقوام يصلون ويقرأون القرآن، يزعمون أن الله كتب الذنوب على العباد، وهم كذبة على الله، والله مسود وجوههم».
واعلم أن أصحابنا قالوا آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل لأنه تعالى قال في آخر الآية: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ} وهذا يدل على أن أولئك الذين صارت وجوههم مسودة أقوام متكبرون، والتكبر لا يليق بمن يقول أنا لا أقدر على الخلق والإعادة والإيجاد، وإنما القادر عليه هو الله سبحانه وتعالى، أما الذين يقولون إن الله يريد شيئاً وأنا أريد بضده، فيحصل مرادي ولا يحصل مراد الله، فالتكبر بهذا القائل أليق، فثبت أن هذا التأويل الذي ذكروه فاسد، ومن الناس من قال إن هذا الوعيد مختص باليهود والنصارى، ومنهم من قال إنه مختص بمشركي العرب، قال القاضي يجب حمل الآية على الكل من المشبهة والمجبرة وكذلك كل من وصف الله بما لا يليق به نفياً وإثباتاً، فأضاف إليه ما يجب تنزيهه عنه أو نزهه عما يجب أن يضاف إليه، فالكل منهم داخلون تحت هذه الآية، لأنهم كذبوا على الله، فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة أو اليهود والنصارى لا يجوز، واعلم أنا لو أجرينا هذه الآية على عمومها كما ذكره القاضي لزمه تكفير الأمة، لأنك لا ترى فرقة من فرق الأمة إلا وقد حصل بينهم اختلاف شديد في صفات الله تعالى، ألا ترى أنه حصل الاختلاف بين أبي هاشم وأهل السنة في مسائل كثيرة من صفات الله تعالى، ويلزم على قانون قول القاضي تكفير أحدهما، فثبت أنه يجب أن يحمل الكذب المذكور في الآية على ما إذا قصد الإخبار عن الشيء، مع أنه يعلم أنه كاذب فيما يقول، ومثال هذا كفار قريش فإنهم كانوا يصفون تلك الأصنام بالإلهية مع أنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنها جمادات، وكانوا يقولون إن الله تعالى حرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، مع أنهم كانوا ينكرون القول بأن الله حرم كذا وأباح كذا، وكان قائله عالماً بأنه كذب وإذا كان كذلك فإلحاق مثل هذا الوعيد بهذا الجاهل الكذاب الضال المضل (يكون) مناسباً، أما من لم يقصد إلا الحق والصدق لكنه أخطأ يبعد إلحاق هذا الوعيد به.
البحث الثاني: الكلام في كيفية السواد الحاصل في وجوههم، والأقرب أنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد، وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله، وأقول إن الجهل ظلمة، والظلمة تتخيل كأنها يواد فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم، وتحت هذا الكلام أسرار عميقة من مباحث أحوال القيامة، فلما ذكر الله هذا الوعيد أردفه بالوعد فقال: {وَيُنَجّى الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} الآية، قال القاضي المراد به من اتقى كل الكبائر إذ لا يوصف بالاتقاء المطلق إلا من كان هذا حاله، فيقال له: أمرك عجيب جداً فإنك قلت لما تقدم قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ المتقين} [الزمر: 57] وجب أن يحمل قوله: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} على الذين قالوا: {لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى} فعلى هذا القانون لما تقدم قوله: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ}.
ثم قال تعالى بعده: {وَيُنَجّى الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} وجب أن يكون المراد هم الذين اتقوا ذلك الكذب، فهذا يقتضي أن كل من لم يتصف بذلك الكذب أنه يدخل تحت ذلك الوعد المذكور بقوله: {وَيُنَجّى الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ} وأن يكون قولك {الذين اتقوا} المراد منه من اتقى كل الكبائر فاسداً، فثبت أن التعصب يحمل الرجل العاقل على الكلمات المتناقضة، بل الحق أن تقول المتقي هو الآتي بالاتقاء والآتي بالاتقاء في صورة واحدة آت بمسمى الاتقاء، وبهذا الحرف قلنا الأمر المطلق لا يفيد التكرار، ثم ذلك الاتقاء غير مذكور بعينه في هذه اللفظة فوجب حمله على الاتقاء عن الشيء الذي سبق ذكره وهذا هو الكذب على الله تعالى، فثبت أن ظاهر الآية يقتضي أن من اتقى عن تلك الصفة وجب دخوله تحت هذا الوعد الكريم.
ثم قال تعالى: {بِمَفَازَتِهِمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بمفازاتهم على الجمع، والباقون بمفازتهم على التوحيد، وحكى الواحدي عن الفرّاء أنه قال: كلاهما صواب، إذ يقال في الكلام قد تبين أمر القوم وأمور القوم، قال أبو علي الفارسي: الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها، كقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] ولا شك أن لكل متق نوعاً آخر عن المفازة.
المسألة الثانية: المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة، فكأن المعنى أن النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات، فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها.
ثم قال: {لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة، كأنه قيل كيف ينجيهم؟ فقيل: {لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وهذه كلمة جامعة لأنه إذا علم أنه لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قله بسبب فوات الماضي، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات، ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة، وتأكد هذا بقوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7